سورة سبأ | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 430 من المصحف
** لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّاتِهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيَ إِلاّ الْكَفُورَ
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها, وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم, وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم, وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته, فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى, ثم أعرضوا عما أمروا به, فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ, شذر مذر, كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريباً وبه الثقة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عباس يقول: إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام منهم أربعة, فأما اليمانيون, فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير, وأما الشامية: فلخم وجذام وعاملة وغسان» ورواه عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وهذا إسناد حسن, ولم يخرجوه, وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ـ في كتاب القصد والأمم, بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ـ من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد أيضاً وعبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن يحيى بن هانىء بن عروة عن فروة بن مسيك رضي لله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» فقاتل بمقبل قومك مدبرهم» فلما وليت دعاني فقال: «لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام» فقلت: يارسول الله أرأيت سبأ, واد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا بل هو رجل من العرب, ولد له عشرة فتيامن ستة, وتشاءم أربعة, تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار, الذين يقال لهم بجيلة وخثعم, وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان» وهذا أيضاً إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي, وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقري عن أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء المرادي عن عمه أو عن أبيه ـ شك ـ أسباط ـ قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
(طريق أخرى) لهذا الحديث. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, حدثني ابن لهيعة عن توبة بن نمر عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال: كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية, فقال يوماً: ما أظن قوماً بأرض إلا وهم من أهلها, فقال علي بن أبي رباح: كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية, وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام, أفأقاتلهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «ما أمرت فيهم بشيء بعد» فأنزلت هذه الاَية {لقد كان لسبأ من مسكنهم آية} الاَيات, فقال له رجل: يا رسول الله ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام أربعة, أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد الأشعريون وأنمار وحمير غير ما حلها, وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة» فيه غرابة من حيث ذكر نزول الاَية بالمدينة, والسورة مكية كلها, والله سبحانه وتعالى أعلم.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو أسامة, حدثنا الحسن بن الحكم, حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو: أرض أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بأرض ولا امرأة, ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد, فتيامن ستة وتشاءم أربعة, فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان, وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار» فقال رجل: ما أنمار ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذين منهم خثعم وبجيلة» ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا, ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال أبو عمر بن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان, حدثنا قاسم بن أصبغ, حدثنا أحمد بن زهير, حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي, عن يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال: إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ, فذكر مثله, فقوي هذا الحديث وحسن. قال علماء النسب ـ منهم محمد بن إسحاق ـ: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان,وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب, وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو, فأعطى قومه فسمي الرائش, والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً. وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم, وقال في ذلك شعراً:
سيملك بعدنا ملكاً عظيماًنبي لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوكيدينوه العباد بغير ذام
ويملك بعدهم منا ملوكيصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبيتقي مخبت خير الأنام
يسمى أحمداً ياليت أنيأعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصريبكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريهومن يلقاه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب ـ الإكليل ـ واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال (أحدها) أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاثة طرائق. (والثاني) أنه من سلالة عابر, وهو هود عليه الصلاة والسلام, واختلفوا أيضاً في كيفية نسبه به على ثلاثة طرائق أيضاً. (والثالث) أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه على ثلاث طرائق أيضاً. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجلاً من العرب» يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح, وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه السلام, وليس هذا المشهور عندهم, والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون, فقال: «ارموا بني إسماعيل ؟ فإن أباكم كان رامياً» فأسلم قبيلة من الأنصار ـ والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ـ نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم, ونزلت طائقة منهم بالشام, وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إنه قريب من المشلل, كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إما سألت فإنا معشر نجبالأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولد له عشرة من العرب» أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه, بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة, والأقل والأكثر, كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة» أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم, منهم من أقام ببلادهم, ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأيتهم من بين جبلين, وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم, فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً, حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين, فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن, كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار, وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار, فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه, وكان هذا السد بمأرب. بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل, ويعرف بسد مأرب, وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث, ولا شيء من الهوام,وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه, كما قال تبارك وتعالى: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية} ثم فسرها بقوله عز وجل: {جنتان عن يمين وشمال} أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك {كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور} أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.
وقوله تعالى: {فأعرضو} أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم, وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله, كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام {وجئتك من سبأ بنبأ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً وقال السدي: أرسل الله عز وجل إليهم اثني عشر ألف نبي, والله أعلم.
وقوله تعالى: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} المراد بالعرم المياه, وقيل الوادي, وقيل الجرذ, وقيل الماء الغزير, فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز, حكى ذلك السهيلي. وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك: إن الله عز وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم, بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته. قال وهب بن منبه: وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمن فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير, وولجت إلى السد فنقبته فانهار عليهم, وقال قتادة وغيره: الجرذ هو الخلد, نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى, وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط, فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك, ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال, فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة, كما قال الله تبارك وتعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن وقتادة والسدي: وهو الأراك وأكلة البرير {وأثل} قال العوفي عن ابن عباس: هو الطرفاء. وقال غيره هو شجر يشبه الطرفاء, وقيل هو السمر, والله أعلم.
وقوله: {وشيء من سدر قليل} لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال: {وشيء من سدر قليل} فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة, والمناظر الحسنة, والظلال العميقة, والأنهار الجارية, تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والتمر القليل, وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل, ولهذا قال تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد: ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري: صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس: لا يناقش إلا الكفور. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي, حدثنا حجاج بن محمد, حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة, وكان من أصحاب علي رضي الله عنه, قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة, والضيق في المعيشة, والتعسر في اللذة, قيل: وما التعسر في اللذة ؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.
** وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ
يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد, والبلاد الرخية, والأماكن الاَمنة, والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء, بل حيث نزل وجد ماء وثمراًو ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم, ولهذا قال تعالى: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيه} قال وهب بن منبه: هي قرى بصنعاء, وكذا قال أبو مالك, وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم: يعني قرى الشام, يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.
وقال العوفي عن ابن عباس: القرى التي باركنا فيها بيت المقدس, وقال العوفي عنه أيضاً: هي قرى عربية بين المدينة والشام {قرى ظاهرة} أي بينة واضحة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى, ولهذا قال تعالى: {وقدرنا فيها السير} أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه {سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين} أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم} وقرأ آخرون {بعد بين أسفارن} وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد, وأحبوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف, كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها, مع أنهم كانوا في عيش رغيد في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة, ولهذا قال لهم: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله} وقال عز وجل: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشته} وقال تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأيتها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. وقال تعالى في حق هؤلاء: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم} أي بكفرهم {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق} أي جعلناهم حديثاً للناس وسمراً يتحدثون به من خبرهم, وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء, تفرقوا في البلاد ههنا وههنا, ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ, وتفرقوا شذر مذر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال ـ إلى قوله تعالى ـ فأرسلنا عليهم سيل العرم} وكانت فيهم كهنة, وكانت الشياطين يسترقون السمع, فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء, فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم, فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار, فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالاً: يا بني إذا كان غداً وأمرتك بأمر فلا تفعله, فإذا انتهرتك فانتهرني, فإذا لطمتك فالطمني, قال: يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر شديد, قال: يا بني قد حدث أمر لا بد منه, فلم يزل به حتى وافاه على ذلك, فلما أصبحوا واجتمع الناس قال: يابني افعل كذا وكذا, فأبى فانتهره أبوه, فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه, فوثب على أبيه فلطمه, فقال: ابني يلطمني ؟ علي بالشفرة, قالوا: ما تصنع بالشفرة ؟ قال: أذبحه, قالوا تريد أن تذبح ابنك ؟ الطمه أو اصنع ما بدا لك, قال: فأبى, قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك, فجاء أخواله فقالوا: خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه, قالوا: فلتموتن قبل أن تذبحه, قال: فإذا كان الحديث هكذا, فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه, اشتروا مني دوري, اشتروا مني أرضي, فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره, فلما صار الثمن في يده وأحرزه قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم وزوال أمركم قد دنا, فمن أراد منكم داراً جديداً وحمى شديداً وسفراً بعيداً, فليلحق بعمان, ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير. وكلمة قال إبراهيم لم أحفظها ـ فليلحق ببصرى, ومن أراد الراسخات في الوحل: المطعمات في المحل, المقيمات في الضحل, فليلحق بيثرب ذات نخل, فأطاعه قومه, فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى, وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل, قال: فأتوا على بطن مر, فقال بنو عثمان هذا مكان صالح لا نبغي به بدلاً, فأقاموا به فسموا لذلك خزاعة, لأنهم انخزعوا من أصحابهم, واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة, وتوجه أهل عمان إلى عمان وتوجهت غسان إلى بصرى. هذا أثر غريب عجيب, وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤوساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم, وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم, فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن فيما حدثني به أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم, فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك, فاعتزم على النقلة عن اليمن, وكان قومه, فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه, ففعل ابنه ما أمره به, فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي وعرض أمواله. فقال أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو, فاشتروا منه أمواله وانتقل هو في ولده وولد ولده, وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر, فباعوا أموالهم وخرجوا معه, فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان, فحاربتهم عك وكانت حربهم سجالاً, ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه:
وعك بن عدنان الذين تلعبوابغسان حتى طردوا كل مطرد
وهذا البيت من قصيدة له. قال: ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان, فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام, ونزلت الأوس والخزرج يثرب, ونزلت خزاعة مراً, ونزلت أزد السراة السراة, ونزلت أزدعمان عمان, ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه, وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الاَيات. وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق, إلا أنه قال: فأمر ابن أخيه مكان ابنه ـ إلى قوله فباع ماله وارتحل بأهله فتفرقوا, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, أخبرنا سلمة عن ابن إسحاق قال: يزعمون أن عمرو بن عامر وهو عم القوم, كان كاهناً فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم, فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون, فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد, ومزاد جديد, فليلحق بكاس أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرو. ومن كان منكم ذا هم مدن, وأمر دعن, فليلحق بأرض شن, فكانت عوف بن عمرو, وهم الذين يقال لهم بارق, ومن كان منكم يريد عيشاً آنياً, وحرماً آمناً فللحق بالأرزين, فكانت خزاعة, ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل,المطعمات في المحل, فيلحق بيثرب ذات النخل, فكانت الأوس والخزرج, وهما هذان الحيان من الأنصار ومن كان منكم يريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً, وملكاً وتأميراً, فليلحق بكوثى وبصرى, فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ومن كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامر, وكانت كاهنة فرأت في كهانتها ذلك, فالله أعلم أي ذلك كان, وقال سعيد عن قتادة عن الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام, وأما الأنصار فلحقوا بيثرب, وأما خزاعة فلحقوا بتهامة, وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة واسمه ميمون بن قيس:
وفي ذاك للمؤتسي أسوةومأرب قفى عليها العرم
رخام بنته لهم حميرإذا جاء ماؤهم لم يرم
فأروى الزروع وأعنابهاعلى سعة ماؤهم إذا قسم
فصاروا أيادي ما يقدرون منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى: {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والاَثام, لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور على النعم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني قالا: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد عن أبيه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر, وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر, يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته». وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي إسحاق السبيعي به, وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه, ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن». قال عبد: حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} قال: كان مطرف يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر, وإذا ابتلي صبر.
** وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاَخِرَةِ مِمّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ وَرَبّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَفُيظٌ
لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان, أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى, فقال: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: هذه الاَية كقوله تعالى إخباراً عن إبليس حين امتنع من السجود لاَدم عليه الصلاة والسلام, ثم قال: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليل} وقال: {ثم لاَتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} والاَيات في هذا كثيرة, وقال الحسن البصري: لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ومعه حواء, هبط إبليس فرحاً بما أصاب منهما, وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف, وكان ذلك ظناً من إبليس, فأنزل الله عز وجل {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين} فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح أعده وأمنيه وأخدعه, فقال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت, ولا يدعوني إلا أجبته, ولا يسألني إلا أعطيته, ولا يستغفر إلا غفرت له», رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تبارك وتعالى: {وما كان له عليهم من سلطان} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي من حجة. وقال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرهم على شيء, وما كان إلا غروراً وأماني, دعاهم إليها فأجابوه, وقوله عز وجل: {إلا لنعلم من يؤمن بالاَخرة ممن هو منها في شك} أي إنما سلطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالاَخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء, فيحسن عبادة ربه عز وجل في الدنيا ممن هو منها في شك.
وقوله تعالى: {وربك على كل شيء حفيظ} أي ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس, وبحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
** قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ
بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد, الذي لا نظير له ولا شريك له, بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض, فقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أي من الاَلهة التي عبدت من دونه {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في والأرض} كما قال تبارك وتعالى: {والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير} وقوله تعالى: {وما لهم فيها من شرك} أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة {وما له منهم من ظهير} أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور, بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه, قال قتادة في قوله عز وجل: {وماله منهم من ظهير} من عون يعينه بشيء.
ثم قال تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة, كما قال عز وجل: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال جل وعلا: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم, وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال: «فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الاَن, ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع, وسل تعطه, واشفع تشفع» الحديث بتمامه.
وقوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق} وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة, وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه, أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي, قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما {حتى إذا فزع عن قلوبهم} أي زال الفزع عنها, قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله عز وجل: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق} يقول: خلى عن قلوبهم, وقرأ بعض السلف, وجاء مرفوعاً إذا فرغ بالغين المعجمة ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم, حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا, ولهذا قال تعالى: {قالوا الحق} أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان {وهو العلي الكبير}.
وقال آخرون: بل معنى قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا: ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا, قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {حتى إذا فزع عن قلوبهم} كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن {حتى إذا فزع عن قلوبهم} يعني ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {حتى إذ فزع عن قلوبهم} يعني ما فيها من الشك قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم {قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير} قال: وهذا في بني آدم هذا عند الموت, أقروا حين لا ينفعهم الإقرار, وقد اختار ابن جرير القول الأول: إن الضمير عائد على الملائكة, وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والاَثار, ولنذكر منها طرفاً يدل على غيره.
قال البخاري عند تفسير هذه الاَية الكريمة في صحيحه, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ ووصف سفيان بيده فحرفها, ونشر بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الاَخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائه كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا, كذا وكذا فيصد بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه, وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق قالا: حدثنا معمر, أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه, قال عبد الرزاق: من الأنصار, فرمي بنجم فاستنار, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية» قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية, قال: نعم ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته, ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش, ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا, ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش, فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم, ويخبر أهل كل سماء سماء, حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون, فما جاؤوا به على وجهه فهو حق, ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون» هكذا رواه الإمام أحمد, وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله, أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن رجل من الأنصار به. وقال يونس عن رجال من الأنصار رضي الله عنهم, وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به, ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي, عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل من الأنصار رضي الله عنه, والله أعلم.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي, والسياق لمحمد بن عوف, قالا: حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تلكم بالوحي, فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة من خوف الله تعالى, فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً, فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام, فيكلمه الله من وحيه بما أراد, فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة, كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول عليه السلام: قال الحق وهو العلي الكبير, فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل, فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض» وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم رحمه الله, وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن قتادة أنهما فسرا هذه الاَية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام, ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الاَية.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 430
430 : تفسير الصفحة رقم 430 من القرآن الكريم** لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّاتِهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيَ إِلاّ الْكَفُورَ
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها, وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم, وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم, وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته, فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى, ثم أعرضوا عما أمروا به, فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ, شذر مذر, كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريباً وبه الثقة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عباس يقول: إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام منهم أربعة, فأما اليمانيون, فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير, وأما الشامية: فلخم وجذام وعاملة وغسان» ورواه عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وهذا إسناد حسن, ولم يخرجوه, وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ـ في كتاب القصد والأمم, بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ـ من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد أيضاً وعبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن يحيى بن هانىء بن عروة عن فروة بن مسيك رضي لله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» فقاتل بمقبل قومك مدبرهم» فلما وليت دعاني فقال: «لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام» فقلت: يارسول الله أرأيت سبأ, واد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا بل هو رجل من العرب, ولد له عشرة فتيامن ستة, وتشاءم أربعة, تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار, الذين يقال لهم بجيلة وخثعم, وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان» وهذا أيضاً إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي, وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقري عن أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء المرادي عن عمه أو عن أبيه ـ شك ـ أسباط ـ قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
(طريق أخرى) لهذا الحديث. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, حدثني ابن لهيعة عن توبة بن نمر عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال: كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية, فقال يوماً: ما أظن قوماً بأرض إلا وهم من أهلها, فقال علي بن أبي رباح: كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية, وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام, أفأقاتلهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «ما أمرت فيهم بشيء بعد» فأنزلت هذه الاَية {لقد كان لسبأ من مسكنهم آية} الاَيات, فقال له رجل: يا رسول الله ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام أربعة, أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد الأشعريون وأنمار وحمير غير ما حلها, وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة» فيه غرابة من حيث ذكر نزول الاَية بالمدينة, والسورة مكية كلها, والله سبحانه وتعالى أعلم.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو أسامة, حدثنا الحسن بن الحكم, حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو: أرض أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بأرض ولا امرأة, ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد, فتيامن ستة وتشاءم أربعة, فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان, وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار» فقال رجل: ما أنمار ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذين منهم خثعم وبجيلة» ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا, ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال أبو عمر بن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان, حدثنا قاسم بن أصبغ, حدثنا أحمد بن زهير, حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي, عن يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال: إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ, فذكر مثله, فقوي هذا الحديث وحسن. قال علماء النسب ـ منهم محمد بن إسحاق ـ: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان,وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب, وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو, فأعطى قومه فسمي الرائش, والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً. وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم, وقال في ذلك شعراً:
سيملك بعدنا ملكاً عظيماًنبي لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوكيدينوه العباد بغير ذام
ويملك بعدهم منا ملوكيصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبيتقي مخبت خير الأنام
يسمى أحمداً ياليت أنيأعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصريبكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريهومن يلقاه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب ـ الإكليل ـ واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال (أحدها) أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاثة طرائق. (والثاني) أنه من سلالة عابر, وهو هود عليه الصلاة والسلام, واختلفوا أيضاً في كيفية نسبه به على ثلاثة طرائق أيضاً. (والثالث) أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه على ثلاث طرائق أيضاً. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجلاً من العرب» يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح, وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه السلام, وليس هذا المشهور عندهم, والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون, فقال: «ارموا بني إسماعيل ؟ فإن أباكم كان رامياً» فأسلم قبيلة من الأنصار ـ والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ـ نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم, ونزلت طائقة منهم بالشام, وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إنه قريب من المشلل, كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إما سألت فإنا معشر نجبالأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولد له عشرة من العرب» أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه, بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة, والأقل والأكثر, كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة» أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم, منهم من أقام ببلادهم, ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأيتهم من بين جبلين, وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم, فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً, حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين, فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن, كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار, وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار, فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه, وكان هذا السد بمأرب. بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل, ويعرف بسد مأرب, وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث, ولا شيء من الهوام,وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه, كما قال تبارك وتعالى: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية} ثم فسرها بقوله عز وجل: {جنتان عن يمين وشمال} أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك {كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور} أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.
وقوله تعالى: {فأعرضو} أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم, وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله, كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام {وجئتك من سبأ بنبأ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً وقال السدي: أرسل الله عز وجل إليهم اثني عشر ألف نبي, والله أعلم.
وقوله تعالى: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} المراد بالعرم المياه, وقيل الوادي, وقيل الجرذ, وقيل الماء الغزير, فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز, حكى ذلك السهيلي. وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك: إن الله عز وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم, بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته. قال وهب بن منبه: وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمن فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير, وولجت إلى السد فنقبته فانهار عليهم, وقال قتادة وغيره: الجرذ هو الخلد, نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى, وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط, فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك, ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال, فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة, كما قال الله تبارك وتعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن وقتادة والسدي: وهو الأراك وأكلة البرير {وأثل} قال العوفي عن ابن عباس: هو الطرفاء. وقال غيره هو شجر يشبه الطرفاء, وقيل هو السمر, والله أعلم.
وقوله: {وشيء من سدر قليل} لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال: {وشيء من سدر قليل} فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة, والمناظر الحسنة, والظلال العميقة, والأنهار الجارية, تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والتمر القليل, وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل, ولهذا قال تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد: ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري: صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس: لا يناقش إلا الكفور. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي, حدثنا حجاج بن محمد, حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة, وكان من أصحاب علي رضي الله عنه, قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة, والضيق في المعيشة, والتعسر في اللذة, قيل: وما التعسر في اللذة ؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.
** وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ
يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد, والبلاد الرخية, والأماكن الاَمنة, والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء, بل حيث نزل وجد ماء وثمراًو ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم, ولهذا قال تعالى: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيه} قال وهب بن منبه: هي قرى بصنعاء, وكذا قال أبو مالك, وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم: يعني قرى الشام, يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.
وقال العوفي عن ابن عباس: القرى التي باركنا فيها بيت المقدس, وقال العوفي عنه أيضاً: هي قرى عربية بين المدينة والشام {قرى ظاهرة} أي بينة واضحة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى, ولهذا قال تعالى: {وقدرنا فيها السير} أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه {سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين} أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم} وقرأ آخرون {بعد بين أسفارن} وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد, وأحبوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف, كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها, مع أنهم كانوا في عيش رغيد في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة, ولهذا قال لهم: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله} وقال عز وجل: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشته} وقال تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأيتها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. وقال تعالى في حق هؤلاء: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم} أي بكفرهم {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق} أي جعلناهم حديثاً للناس وسمراً يتحدثون به من خبرهم, وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء, تفرقوا في البلاد ههنا وههنا, ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ, وتفرقوا شذر مذر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال ـ إلى قوله تعالى ـ فأرسلنا عليهم سيل العرم} وكانت فيهم كهنة, وكانت الشياطين يسترقون السمع, فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء, فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم, فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار, فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالاً: يا بني إذا كان غداً وأمرتك بأمر فلا تفعله, فإذا انتهرتك فانتهرني, فإذا لطمتك فالطمني, قال: يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر شديد, قال: يا بني قد حدث أمر لا بد منه, فلم يزل به حتى وافاه على ذلك, فلما أصبحوا واجتمع الناس قال: يابني افعل كذا وكذا, فأبى فانتهره أبوه, فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه, فوثب على أبيه فلطمه, فقال: ابني يلطمني ؟ علي بالشفرة, قالوا: ما تصنع بالشفرة ؟ قال: أذبحه, قالوا تريد أن تذبح ابنك ؟ الطمه أو اصنع ما بدا لك, قال: فأبى, قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك, فجاء أخواله فقالوا: خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه, قالوا: فلتموتن قبل أن تذبحه, قال: فإذا كان الحديث هكذا, فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه, اشتروا مني دوري, اشتروا مني أرضي, فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره, فلما صار الثمن في يده وأحرزه قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم وزوال أمركم قد دنا, فمن أراد منكم داراً جديداً وحمى شديداً وسفراً بعيداً, فليلحق بعمان, ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير. وكلمة قال إبراهيم لم أحفظها ـ فليلحق ببصرى, ومن أراد الراسخات في الوحل: المطعمات في المحل, المقيمات في الضحل, فليلحق بيثرب ذات نخل, فأطاعه قومه, فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى, وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل, قال: فأتوا على بطن مر, فقال بنو عثمان هذا مكان صالح لا نبغي به بدلاً, فأقاموا به فسموا لذلك خزاعة, لأنهم انخزعوا من أصحابهم, واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة, وتوجه أهل عمان إلى عمان وتوجهت غسان إلى بصرى. هذا أثر غريب عجيب, وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤوساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم, وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم, فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن فيما حدثني به أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم, فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك, فاعتزم على النقلة عن اليمن, وكان قومه, فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه, ففعل ابنه ما أمره به, فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي وعرض أمواله. فقال أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو, فاشتروا منه أمواله وانتقل هو في ولده وولد ولده, وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر, فباعوا أموالهم وخرجوا معه, فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان, فحاربتهم عك وكانت حربهم سجالاً, ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه:
وعك بن عدنان الذين تلعبوابغسان حتى طردوا كل مطرد
وهذا البيت من قصيدة له. قال: ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان, فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام, ونزلت الأوس والخزرج يثرب, ونزلت خزاعة مراً, ونزلت أزد السراة السراة, ونزلت أزدعمان عمان, ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه, وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الاَيات. وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق, إلا أنه قال: فأمر ابن أخيه مكان ابنه ـ إلى قوله فباع ماله وارتحل بأهله فتفرقوا, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, أخبرنا سلمة عن ابن إسحاق قال: يزعمون أن عمرو بن عامر وهو عم القوم, كان كاهناً فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم, فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون, فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد, ومزاد جديد, فليلحق بكاس أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرو. ومن كان منكم ذا هم مدن, وأمر دعن, فليلحق بأرض شن, فكانت عوف بن عمرو, وهم الذين يقال لهم بارق, ومن كان منكم يريد عيشاً آنياً, وحرماً آمناً فللحق بالأرزين, فكانت خزاعة, ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل,المطعمات في المحل, فيلحق بيثرب ذات النخل, فكانت الأوس والخزرج, وهما هذان الحيان من الأنصار ومن كان منكم يريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً, وملكاً وتأميراً, فليلحق بكوثى وبصرى, فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ومن كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامر, وكانت كاهنة فرأت في كهانتها ذلك, فالله أعلم أي ذلك كان, وقال سعيد عن قتادة عن الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام, وأما الأنصار فلحقوا بيثرب, وأما خزاعة فلحقوا بتهامة, وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة واسمه ميمون بن قيس:
وفي ذاك للمؤتسي أسوةومأرب قفى عليها العرم
رخام بنته لهم حميرإذا جاء ماؤهم لم يرم
فأروى الزروع وأعنابهاعلى سعة ماؤهم إذا قسم
فصاروا أيادي ما يقدرون منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى: {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والاَثام, لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور على النعم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني قالا: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد عن أبيه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر, وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر, يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته». وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي إسحاق السبيعي به, وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه, ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن». قال عبد: حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} قال: كان مطرف يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر, وإذا ابتلي صبر.
** وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاَخِرَةِ مِمّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ وَرَبّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَفُيظٌ
لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان, أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى, فقال: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: هذه الاَية كقوله تعالى إخباراً عن إبليس حين امتنع من السجود لاَدم عليه الصلاة والسلام, ثم قال: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليل} وقال: {ثم لاَتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} والاَيات في هذا كثيرة, وقال الحسن البصري: لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ومعه حواء, هبط إبليس فرحاً بما أصاب منهما, وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف, وكان ذلك ظناً من إبليس, فأنزل الله عز وجل {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين} فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح أعده وأمنيه وأخدعه, فقال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت, ولا يدعوني إلا أجبته, ولا يسألني إلا أعطيته, ولا يستغفر إلا غفرت له», رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تبارك وتعالى: {وما كان له عليهم من سلطان} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي من حجة. وقال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرهم على شيء, وما كان إلا غروراً وأماني, دعاهم إليها فأجابوه, وقوله عز وجل: {إلا لنعلم من يؤمن بالاَخرة ممن هو منها في شك} أي إنما سلطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالاَخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء, فيحسن عبادة ربه عز وجل في الدنيا ممن هو منها في شك.
وقوله تعالى: {وربك على كل شيء حفيظ} أي ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس, وبحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
** قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ
بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد, الذي لا نظير له ولا شريك له, بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض, فقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أي من الاَلهة التي عبدت من دونه {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في والأرض} كما قال تبارك وتعالى: {والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير} وقوله تعالى: {وما لهم فيها من شرك} أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة {وما له منهم من ظهير} أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور, بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه, قال قتادة في قوله عز وجل: {وماله منهم من ظهير} من عون يعينه بشيء.
ثم قال تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة, كما قال عز وجل: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال جل وعلا: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم, وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال: «فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الاَن, ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع, وسل تعطه, واشفع تشفع» الحديث بتمامه.
وقوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق} وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة, وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه, أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي, قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما {حتى إذا فزع عن قلوبهم} أي زال الفزع عنها, قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله عز وجل: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق} يقول: خلى عن قلوبهم, وقرأ بعض السلف, وجاء مرفوعاً إذا فرغ بالغين المعجمة ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم, حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا, ولهذا قال تعالى: {قالوا الحق} أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان {وهو العلي الكبير}.
وقال آخرون: بل معنى قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا: ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا, قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {حتى إذا فزع عن قلوبهم} كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن {حتى إذا فزع عن قلوبهم} يعني ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {حتى إذ فزع عن قلوبهم} يعني ما فيها من الشك قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم {قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير} قال: وهذا في بني آدم هذا عند الموت, أقروا حين لا ينفعهم الإقرار, وقد اختار ابن جرير القول الأول: إن الضمير عائد على الملائكة, وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والاَثار, ولنذكر منها طرفاً يدل على غيره.
قال البخاري عند تفسير هذه الاَية الكريمة في صحيحه, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ ووصف سفيان بيده فحرفها, ونشر بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الاَخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائه كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا, كذا وكذا فيصد بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه, وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق قالا: حدثنا معمر, أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه, قال عبد الرزاق: من الأنصار, فرمي بنجم فاستنار, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية» قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية, قال: نعم ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته, ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش, ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا, ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش, فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم, ويخبر أهل كل سماء سماء, حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون, فما جاؤوا به على وجهه فهو حق, ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون» هكذا رواه الإمام أحمد, وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله, أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن رجل من الأنصار به. وقال يونس عن رجال من الأنصار رضي الله عنهم, وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به, ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي, عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل من الأنصار رضي الله عنه, والله أعلم.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي, والسياق لمحمد بن عوف, قالا: حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تلكم بالوحي, فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة من خوف الله تعالى, فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً, فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام, فيكلمه الله من وحيه بما أراد, فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة, كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول عليه السلام: قال الحق وهو العلي الكبير, فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل, فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض» وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم رحمه الله, وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن قتادة أنهما فسرا هذه الاَية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام, ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الاَية.
الصفحة رقم 430 من المصحف تحميل و استماع mp3